فتش في جيوبك وفيما تحمله من أوراق هوية, ستجد أن لك رقما قوميا علي البطاقة الشخصية ورقما في جواز السفر ورقما للتأمينات الاجتماعية, ورقما في البطاقة الانتخابية, ورقما للتأمين الصحي ورقما في رخصة القيادة, وبضعة أرقام ضريبية إذا كان لك أكثر من نشاط, وكلما فتشت أكثر ستجد أرقاما وأكوادا أكثر, أي أنك من الناحية المعلوماتية وأمام الدولة مواطن بعشرات الأوجه التي لا رابط بينها, وإذا لم يكن بعض هذه الأوجه يتعارض مع الآخر فهو علي الأقل يكرر ما يفعله, وما هذا السيرك العبثي إلا علامة واضحة علي الفشل في إيجاد الحد الأدني من التوافق والترابط بين قواعد البيانات القومية التي أنتجت هذه الأرقام, وعلامة علي أن هذه القواعد تنتهك موارد الوطن وراحة المواطن بصورة سيئة, لأن كل منها ينطلق من الصفر دائما فينفق من أول السطر ثم يفعل ما يحلو له بالمواطنين الذين هم أنت وأنا وأصدقاؤنا وزملاؤنا وأبناؤنا فندفع في كل مرة من أول السطر... فهل لهذا الوضع من مخرج؟
لكي نخرج من هذا العبث المعلوماتي وتتفق القواعد والقائمين عليها علي كلمة سواء تخفف العبء عن الناس وترشد استخدام موارد الوطن المحدودة أصلا, لابد من قاسم مشترك يستطيع أن يجمع ولا يفرق ويجعل الود بديلا للجفوة القائمة, ويستند إلي قاعدة تبادل المنافع وليس تضارب المصالح, وبالتالي يكون مخرجا تقبل به قواعد البيانات كأساس للعمل المشترك وللتواصل المستمر والتكامل البناء والتحديث المتبادل للبيانات والمعلومات.
والقاسم المشترك الذي لديه أكبر قدر من هذه الصفات هو الرقم القومي, لأن كل قواعد البيانات القومية القائمة ـ علي اختلاف وظائفها وانتماءاتها التنظيمية والقطاعية ـ لابد أن تحتوي علي بيانات ومعلومات متعلقة بالمواطنين الذين يتعين عليها أن تتعامل معهم, ومن ناحية أخري لا توجد قاعدة بيانات قومية متخصصة في التعامل مع هوية المواطن بكود تعريفي فريد غير متكرر سوي قاعدة بيانات الرقم القومي, ومعني ذلك أن الرقم القومي للمواطن والبيانات المرتبطة به يمكن أن تلعب دور قاسم الود المشترك بين جميع قواعد البيانات القائمة, في قطاعات التجارة والداخلية والصناعة والزراعة والتعليم والصحة والتأمينات والمالية والضرائب والجمارك والبنوك وغيرها.
للمهندس يحيي العطفي مدير قاعدة بيانات الرقم القومي تصور مهم للخروج من هذه الحالة واستخدام الرقم القومي كأداة ربط وتفاهم بين قواعد البيانات القائمة, وملخص هذا التصور أنه بالإمكان توليد نسخة احتياطية من قاعدة بيانات الرقم القومي واتاحتها وفتحها أمام قواعد البيانات القومية الأخري للاستفادة مما بها من بيانات ومعلومات وأرقام عن المواطنين بالشكل الذي يناسب احتياجات كل قاعدة, وفي هذه الحالة سوف تخدم قاعدة بيانات الرقم القومي قواعد بيانات الضمان الاجتماعي والبنوك والتجارة والضرائب والتعليم وغيرها, كما تستطيع خدمة مشروعات التنمية المعلوماتية الكبري مثل السجل العيني الزراعي والسجل العيني العقاري من خلال ربط هوية العقار أو الأرض بالرقم القومي لصحابها أو مالكها أو شاغلها.
هذا السيناريو يتطلب جهدا كبيرا لكي يتم, إذ لابد من الاتفاق علي معايير فنية ومعلوماتية واضحة موحدة من قبل جميع قواعد البيانات الموجودة لدي الجهات المختلفة علي كيفية بناء وفهرسة البيانات وتعريفها وقواعد هيكلة قواعد البيانات نفسها, والاتفاق علي نمط موحد يعمل كقاعدة تفي بالحد الأدني المطلوب لإحداث الربط المباشر بين قواعد البيانات وبعضها البعض.
يتطلب الامر أيضا اتفاق علي مستويات التداخل بين كل قاعدة بيانات وأخري, أو مستوي الصلاحيات التي ستمنح لكل قاعدة في الدخول البيانات والمعلومات الموجودة في القواعد الأخري, وهل ستتوقف هذه الصلاحيات عند مجرد القراءة أم النسخ أم التعديل أم الإضافة أم التحديث أم غير ذلك, وغني عن القول أن هذا الأمر بالتحديد يحتاج مجهودا شاقا في الاتفاق علي التفاصيل الفنية والإجرائية والإدارية المطلوبة.
ولكي يكون الأمر مجديا لابد أن تقبل قواعد البيانات المختلفة بالرقم القومي ككود تعريفي موحد للمواطنين في جميع الحالات, بمعني أن علي التأمينات الاجتماعية والجوازات وإدارات المرور والتأمين الصحي والانتخابات وجهات الضرائب وغيرها من الجهات المصدرة للأرقام أو الأكواد التعريفية الأخري إلغاء أرقامها وإحلال الرقم القومي محلها, ليكون هو أداة تعريف المواطن في جميع الحالات.
ومهمة من هذا النوع ليست سهلة, فعلي الصعيد الموضوعي هناك مشكلات تكتنف عملية إعادة تنميط البيانات وإعادة تهيئتها للعمل بأكواد تعريفية جديدة أو إضافة أكواد لها, وجميعها مهام تتطلب ميزانيات وخبرات فنية عريضة ووقت لكي تنفذ, لأن بعضها مرتبط بنظم تشغيل غير متوافقة أو تكنولوجيات متفاوتة من حيث التطور ودرجة الانفتاح والشركة المنتجة, وكذلك نوعية قواعد البيانات المستخدمة ومستوي حداثتها وقابليتها للعمل في بيئات مفتوحة, إضافة إلي التعقيدات المتعلقة بالتطبيقات والبرامج التي بنيت علي قواعد البيانات وأخذت وقتا طويلا حتي تم إنضاجها ووصلت لمرحلة الاستقرار وباتت تقدم خدمات لملايين الناس بصورة معينة وينبغي الحرص الشديد في تعديلها ونقلها للوضع الجديد, ناهيك عن أن البيانات نفسها الموضوعة في القواعد المختلفة جري جمعها وتحزينها وفهرستها وتصنيفها وتنميطها بطرق تختلف من قاعدة لأخري وفقا لخبرات القائمين عليها ورؤيتهم لكيفية بناء القاعدة وتصورهم لمعايير أو مقاييس تعريف البيانات وطرق معالجتها.
وجميع التحديات السابقة تعتبر هينة وسهلة لكونها تحتاج في النهاية إلي وقت وميزانيات وإجراءات فنية أصبحت مفهومة ومتاحة في الوقت الحالي بعد التطور الكبير الذي أحدثته الإنترنت وتكنولوجياتها في فتح قواعد البيانات علي بعضها البعض, لكن ستظل المعضلة الأصعب هي التحديات التي لا علاقة لها بالميزانيات والإجراءات التقنية, وإنما تتعلق بالعقليات المسئولة عن قواعد البيانات ومدي استعدادها لتفهم هذا التغيير والقبول به وامتلاك إرادة تنفيذه علي النحو الأمثل, ومواقفها من الأمر برمته.
أستطيع القول إن المضي قدما في هذا الاتجاه سيصطدم لا محالة بعدم عدم الأكتراث لدي البعض والاعتراض القائم علي تعارض المصالح والإحساس بالخطر لدي البعض الآخر, ثم الاعتراض لأسباب سلوكية ونفسية تتعلق بنزعة التقوقع والتكويش وكراهية الانفتاح علي الآخرين لدي فريق ثالث, وصولا إلي الخوف المرضي من فكرة التداول السلس والحر للمعلومات لدي فريق رابع.
يزيد من صعوبة ذلك أن هذه الاعتراضات لن تأتي فقط من قبل التقنيين ومسئولي بناء وتشغيل قواعد البيانات فقط, وإنما ستأتي من المسئولين التنفيذيين ومسئولي الإدارة العليا لدي الجهات المختلفة نفسها, فهناك وزراء لا يروقهم أن تفتح بياناتهم علي وزارات أخري, وهناك مديرون يشعرون بالغيرة من آخرين, وهناك من يري فيما حققه إرثا مقدسا لا يجب المساس به ويتعين الحفاظ عليه من الدخلاء والغرباء حتي لو كانوا من قاعدة بيانات الرقم القومي.
هنا يمكنني القول إننا أمام معضلة معلوماتية خطيرة تخصم من عافية الوطن وأدائه الإداري والإنتاجي, أخطارها معروفة وحلولها معروفة وتحدياتها أيضا معروفة, لكن الكل دأب طوال السنوات الماضية علي أن يتفرج عليها ويهز كتفيه ويمضي لحال سبيله ويتركها بلا حل, وحينما برزت علي السطح خلال الآونة الأخيرة محاولة لوضع المعضلة علي طريق الحل, بدت هذه المحاولة وكأنها صراع مع طواحين الهواء, أو مطاردة لأشباح تتراءي من بعيد ثم تختفي بسرعة قبل أن يمسك بها أحد, وأبرز نموذج علي هذه الحالة البرنامج الجريء الذي بدأت وزارة التنمية الإدارية تنفيذه منذ فترة لفتح بعض هذه القواعد علي بعضها البعض وفق معايير متفق عليها يلعب فيها الرقم القومي دورا حيويا, لكن البرنامج ـ علي الرغم من جسارة القائمين عليه ودأبهم الشديد ـ لم يصل إلي المستوي الذي يحقق نقلة نوعية شاملة, ولايزال يواجه صعوبات جمة تتنوع ما بين عدم الاكتراث والحرب الخفية إلي تصرفات تنتمي لأساليب الثعالب الصغيرة التي تتفنن في تفريغ أي شيء من محتواه من خلال إغراقه في وحل التصرفات الصغيرة البائسة التي تمتص أية قدرة علي الإنجاز.
خلاصة القول إن هذه المعضلة وصلت إلي المستوي الذي لا يمكن مواجهته إلا بقرار رئاسي أو من مجلس الوزراء, يعلن صراحة أن الدولة ـ وليس الحكومة فقط ـ قررت إنهاء سيرك الارقام والهويات القائم حاليا, والتوجه نحو بناء حالة من التوافقية والانفتاح والتكامل, وان علي الجميع الجلوس معا والالتزام طوعا او كرها بالانتقال إلي العمل بالقاسم المشترك الذي ينبغة أن يكون موجودا فعليا بين الجميع سواء كان الرقم القومي أو غيره أو هو وأي معيار آخر, وأن يكون القرار واضحا ومحددا للغاية في الجهة أو الوزارة التي ستتولي مسئولية إنجاز عملية التكامل والربط, ومسئولية وضع ومتابعة المعايير الفنية لتنميط البيانات وأسس تداولها بين مختلف القواعد القائمة أو التي ستنشأ مستقبلا, وكذلك مسئولية وضع البرامج التنفيذية الخاصة بإدخال الرقم القومي كقاسم مشترك بين هذه القواعد جميعا.
إنني أعترف بأن الأوضاع الحالية تدل علي أن مثل هذا القرار أو التوجه يعد حلما بعيد المنال, لكن ليس أمامنا إلا أن نحلم ونطالب به مرة بعد الأخري, لأنه يعد واحدا من المداخل أو المسارات المهمة التي ستقودنا في النهاية إلي وطن متوازن الأداء, يقاس فيه كل شيء بفعالية وجودة نتائجه, وطن شفاف لا مكان فيه لعبث معلوماتي أو لفساد أو احتكار لسلعة أو خدمة أو سلطة وهذا ما تستحقه مصر.
